فصل: الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة

كاذت العناية قديما بالدواوين العلمية والسجلات في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط‏.‏ وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة‏.‏ وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة وتناقص العمران بعد ان كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق والأندلس إذ هو كله من توابع العمران واتساع نطاق الدولة ونفاق أسواق ذلك لديهما‏.‏ فكثرت التآليف العلمية والدواوين وحرص الناس على تناقلهما في الآفاق والأعصار فانتسخت وجلدت‏.‏ وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتيبة والدواوين واختصت بالأمصار العظيمة العمران‏.‏ وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوم وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرفه وقلة التآليف صدر الملة كما نذكره وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفا للمكتوبات وميلًا بها إلى الصحة والإتقان‏.‏ ثم طما بحر التآليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك‏.‏ فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه‏.‏ واتخذه الناس من بعده صحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية‏.‏ وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت‏.‏ ثم وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها لأنه‏.‏ الشأن الأهم من التصحيح والضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها‏.‏ وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها فلا يصح إسناد قول لهم ولا فتيا‏.‏ وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق‏.‏ حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها ومسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها قد ذهبت وتمخضت زبدة في تلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة‏.‏ وصار القصد إلى ذلك لغواً من العمل‏.‏ ولم تبق ثمرة الرواية والاشتغال بها إلا في تصيحيح تلك الأمهات الحديثية وسواها من كتب الفقه للفتيا وغير ذلك من الدواوين والتآليف العلمية واتصال سندها بمؤلفيه ليصح النقل عنهم والإسناد إليهم‏.‏ وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك‏.‏ ولهذا نجذ الدواوين المنسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصحة‏.‏ ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك‏.‏ وأهل الأفاق يتناقلونها إلي الآن ويشدون عليها يد الضنانة‏.‏ ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله‏.‏ وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط البدوية ينسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط وكثرة الفساد والتصحيف فتستغلق على متصفحها ولا يحصل منها فائدة إلا في الأقل النادر‏.‏ وأيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذاهب وإنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه‏.‏ وتبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته وعدم الصنائع الوافية بمقاصده‏.‏ ولم يبق من هذا الرسم بالأندلس إلا إثارة خفية بالأنحاء وهي على الاضمحلال‏.‏ فقد كاد العلم ينقطع بالكلية ويبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق وتصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم والصنائع كما نذكره بعد‏.‏ إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم وفي خطوطهم‏.‏ وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

  الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء

هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصواات على نسب منتظمة معروفة يوقع على كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة‏.‏ ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية فى تلك الأصوات‏.‏ وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون‏:‏ صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزء من أحد عشر من آخر‏.‏ واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب‏.‏ وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع بل للملذوذ تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلموا عليها كما هو مذكوز في موضعه‏.‏ وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في آلات تتخذ لذلك فتزيدها لذة عن السماع‏.‏ فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف‏:‏ منها المزمار ويسمونه الشبابة وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوت‏.‏ ويخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش‏.‏ ويقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعاً متعارفاً حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه وتتصل كذلك متناسبة فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه‏.‏ ومن جنس هذه الألة المزمار الذي يسفى الزلامي وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفوذتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها وتصوت بنغمة حادة‏.‏ ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة‏.‏ ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دور الكف في شكل بري القلم‏.‏ وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً وفيه أبخاش أيضاً معدودة‏.‏ وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً‏.‏ ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلها‏:‏ إما على شكل قطعة من الكرة مثل البربط والرباب أو على شكل مربع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليتأتى شد الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها‏.‏ ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوسي يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر‏.‏ ويقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر‏.‏ واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحك بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة‏.‏ وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع‏.‏ ولنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء‏.‏ وذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم والمحسوس إنما تدرك منه كيفية‏.‏ فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة‏.‏ فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها وكذا الملائم من الملموسات وفي الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك وإليه تؤديه الحاسة‏.‏ ولهذا كانت الرياحين والأزهار العطريات أحسن رائحة وأشد ملاءمة للروح لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي‏.‏ وأما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها‏.‏ فإذا كان المرئي متناسباً في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها‏.‏ ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب‏.‏ وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله وهو اتحاد المبدإ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحاداً في البداية يشهد لك به اتحادكما في الكون‏.‏ ومعناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء‏.‏ فتود أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدإ والكون‏.‏ ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى مدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته فيلهج كل إنسان بالحسن في المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة‏.‏ والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة‏.‏ وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن‏.‏ فأولاً‏:‏ أن لا يخرج من الصوت إلى مدة دفعة بل بتدريج ثم يرجع كذلك وهكذا إلى المثل بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين‏.‏ وتأمل هذا من استقباح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه‏.‏ وثانياً‏:‏ تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسباً على ما حصره أهل صناعة الموسيقى‏.‏ فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة‏.‏ ومن هذا التناسب ما يكون بسيطاً ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك‏.‏ وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار‏.‏ وكثير من القراء بهذه المثابة يقرأون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتنا سب نغماتهم‏.‏ ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب وليس كل الناس يستوي في معرفته ولا كل الطبائع توافق صاحبها في العمل به إذا علم‏.‏ وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم‏.‏ وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين وأجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ وليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه لأن القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعيين أداء الحروف من حيث إتباع الحركات في مواضعها ومقدار المد عند من يطلقة أو يقصره وأمثال ذلك‏.‏ والتلحين أيضاً يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين‏.‏ فاعتبار أحدهما قد يخل بالأخر إذا تعارضا‏.‏ وتقديم التلاوة متعين فراراً من تغيير الرواية المنقولة في القرآن فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القرآن بوجه‏.‏ وإنما المراد عن اختلافهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره ولا ينبغبي ذلك بوجه كما قاله مالك‏.‏ هذا هو محل الخلاف‏.‏ والظاهر تنزية القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى لأن القرآن هو محل خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات‏.‏ وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود فليس المراد به الترديد والتلحين إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها‏.‏ وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضرروي إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفننوا فيه فتحدث هذه الصناعة‏.‏ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنناً في مذاهب الملذوذات‏.‏ وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم‏.‏ وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها‏.‏ وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم‏.‏ وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة ويفضلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإدادة لا ينعطف على الآخر‏.‏ ويسمونه البيت فيلائم الطبع بالتجزئة أولاً ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادىء ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها‏.‏ فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه بهذا التناسب‏.‏ وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب‏.‏ واستمروا على ذلك‏.‏ وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى‏.‏ إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة‏.‏ وكانت البداوة أغلب نحلهم‏.‏ ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم والفتيان في قضاء خلواتهم فرجعوا الأصوات وترنموا‏.‏ وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغييراً بالغين المعجمة والباء الموحدة‏.‏ وعللها أبو إسحق الزجاج بأنها تذكر بالغابر وهو الباقي أي بأحوال الآخرة‏.‏ وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره‏.‏ وكانوا يسمونه السناد وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحلوم‏.‏ وكانوا يسمون هذا الهزج وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع‏.‏ ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم‏.‏ فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ‏.‏ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئاً ما‏.‏ ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي كان دينهم ومذهبهم‏.‏ فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ‏.‏ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والزمامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات ولحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب وحائر مولى عبد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر‏.‏ ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره‏.‏ وما زالت صناعة الغناء تتمزج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وابنه حماد‏.‏ وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو واللعب واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه‏.‏ وجعل صنفاً وحده واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون ويفرون ويتثاقفون وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو‏.‏ وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها‏.‏ وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس‏.‏ فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحله من دولته وندمائه بمكان‏.‏ فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف‏.‏ وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب‏.‏ وانقسم على أمصارها وبها الأن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها‏.‏ وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح‏.‏ وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب

قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة‏.‏ وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولاً ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل وعقلاً محضاً فتكون ذاتاً روحانية وتستكمل حينئذ وجودها‏.‏ فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلاً فريداً والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة‏.‏ فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً والملكات الصناعية تفيد عقلاً والحضارة الكاملة تفيد عقلاً لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها‏.‏ وهذه كلها قوانين تنتظم علوماً فيحصل منها زيادة عقل‏.‏ والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصنائع‏.‏ وبيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك دائماً‏.‏ فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة فتكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل‏.‏ ويحصل به مزيد فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال‏.‏ ولذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة والكيس فقال‏:‏ ‏"‏ ديوانه أي شياطين أو جنون ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة‏.‏ ويلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوداً للاستدلال والنظر وهو معنى العقل‏.‏ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون‏.‏

  الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها

والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق فالمقدمة في الفكر الإنساني الذي تميز به البشر عن الحيوانات واهتدى به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والنظر في معبوده وما جاءت به الرسل من عنده فصار جميع الحيوانات في طاعته وملك قدرته وفضله به على كثير خلقه‏.‏

  الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي

في العمران البشري وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكن وغير ذلك‏.‏ وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع الميء لذلك التعاون وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه‏.‏ فهو مفكر في ذلك كله دائماً لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر‏.‏ وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع‏.‏ ثم لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه‏.‏ ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحداً بعد آخر ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً‏.‏ وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشيء إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا‏.‏ فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الفصل الثاني في أن تعليم العلم من جملة الصنائع

وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هم بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله‏.‏ وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً‏.‏ وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي‏.‏ لأنا نجد فهم المسئلة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدىء فيه وبين العامي الذي لم يحصل علماً وبين العالم النحرير‏.‏ والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي‏.‏ والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر وغيره كالحساب‏.‏ والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم‏.‏ ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل‏.‏ ويدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه‏.‏ فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم‏.‏ ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين وكذا أصول الفقه وكذا العربية وكذا كل علم يتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم‏.‏ والعلم واحد في نفسه‏.‏ وإذا تقرر ذلك فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه‏.‏ وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر‏.‏ وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانها وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة‏.‏ ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة‏.‏ فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها‏.‏ ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل‏.‏ وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقن تعليمهم‏.‏ وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن‏.‏ وجاء على أثره من المشرق أبوعبد الله ابن شعيب الدكالي‏.‏ كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها‏.‏ وكان تعليمه مفيداً فأخذ عنهما أهل تونس‏.‏ واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه‏.‏ فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة وفي مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم‏.‏ ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشد إلى المشرق وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقن تعليمهم‏.‏ وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة وحذق في العقليات والنقليات‏.‏ ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد ونزل بجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها‏.‏ وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشد إلى تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها‏.‏ وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل‏.‏ وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسرعليهم حصول الملكة والحذق في العلوم‏.‏ وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها‏.‏ فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة‏.‏ فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم‏.‏ ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده‏.‏ وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من المكة العلمية وليس كذلك‏.‏ ومما يشهد بذلك في المغرب أصن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين‏.‏ وهذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه العصور لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك‏.‏ وأما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين‏.‏ ولم يبق من رسم العلم عندهم إلا فن العربية والأدب اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمة بينهم فانحفظ بحفظه‏.‏ وأما الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عيني‏.‏ وأما العقليات فلا أثر ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران وتغلب العدو على عامتها إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏ وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه‏.‏ وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أدال منها بامصار أعظم من تلك‏.‏ وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب فلم تزل موفورة وعمرانها متصلاً وسند التعليم بها قائماً‏.‏ فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصنائع‏.‏ حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنهم أشد نباهة وأعظم كيساً بفطرتهم الأولى‏.‏ وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب‏.‏ ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك‏.‏ وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع ونزيده الآن شرحاً وتحقيقاً‏.‏ وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم‏.‏ فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى‏.‏ وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم‏.‏ ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً تستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف‏.‏ ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها‏.‏ وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية تزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الاثار العلمية فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك‏.‏ ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس حتى إن البدوي ليظنة أنه قد فاتة في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك‏.‏ وما ذاك إلا لإجادته من ملكات الصنائع‏.‏ والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي‏.‏ فلما امتلأ الحضري في الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصرعن تلك الملكات أنها لكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وحبلتها عن فطرته وليس كذلك‏.‏ فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته وإنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك فهو رونق الصنائع والتعليم فإن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه‏.‏ وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدماً وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدمناه في الفصل قبل هذا ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهمه‏.‏ والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السماوات والأرض‏.‏